سورة الجاثية - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجاثية)


        


{وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)}
اعلم أنه تعالى بيّن أنه أنعم بنعم كثيرة على بني إسرائيل، مع أنه حصل بينهم الاختلاف على سبيل البغي والحسد: والمقصود أن يبين أن طريقة قومه كطريقة من تقدم.
واعلم أن النعم على قسمين: نعم الدين، ونعم الدنيا، ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا، فلهذا بدأ الله تعالى بذكر نعم الدين، فقال: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب والحكم والنبوة} والأقرب أن كل واحد من هذه الثلاثة يجب أن يكون مغايراً لصاحبه، أما الكتاب فهو التوراة، وأما الحكم ففيه وجوه، يجوز أن يكون المراد العلم والحكمة، ويجوز أن يكون المراد العلم بفصل الحكومات، ويجوز أن يكون المراد معرفة أحكام الله تعالى وهو علم الفقه، وأما النبوة فمعلومة، وأما نعم الدنيا فهي المراد من قوله تعالى: {وَرَزَقناهم مِّنَ الطيبات} وذلك لأنه تعالى وسع عليهم في الدنيا، فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم ثم أنزل عليهم المن والسلوى، ولما بيّن تعالى أنه أعطاهم من نعم الدين ونعم الدنيا نصيباً وافراً، قال: {وفضلناهم عَلَى العالمين} يعني أنهم كانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن سواهم في وقتهم، فلهذا المعنى قال المفسرون المراد: وفضلناهم عن عالمي زمانهم.
ثم قال تعالى: {وءاتيناهم بينات مّنَ الأمر} وفيه وجوه:
الأول: أنه آتاهم بينات من الأمر، أي أدلة على أمور الدنيا الثاني: قال ابن عباس: يعني بيّن لهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، ويكون أنصاره أهل يثرب الثالث: المراد {وءاتيناهم بينات} أي معجزات قاهرة على صحة نبوتهم، والمراد معجزات موسى عليه السلام.
ثم قال تعالى: {فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} وهذا مفسر في سورة {حم * عسق} [الشورى: 1، 2] والمقصود من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف، وهاهنا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف، وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم، ثم هاهنا احتمالات يريد أنهم علموا ثم عاندوا، ويجوز أن يريد بالعلم الدلالة التي توصل إلى العلم، والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق، لكنهم على وجه الحسد والعناد اختلفوا وأظهروا النزاع.
ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضي بَيْنَهم يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} والمرد أنه لا ينبغي أن يغتر المبطل بنعم الدنيا، فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها، فإنه سيرى في الآخرة ما يسؤوه، وذلك كالزجر لهم، ولما بيّن تعالى أنهم أعرضوا عن الحق لأجل البغي والسحد، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعدل عن تلك الطريقة، وأن يتمسك بالحق، وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق وتقرير الصدق، فقال تعالى: {ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مّنَ الأمر} أي على طريقة ومنهاج من أمر الدين، فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والبينات، ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال وأديانهم المبنية على الأهواء والجهل، قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة: ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً} أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة فصرت مستحقاً للعذاب، فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك، ثم بيّن تعالى أن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وفي الآخرة، ولا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون، فالله وليهم وناصرهم وهم موالوه، وما أبين الفرق بين الولايتين، ولما بيّن الله تعالى هذه البيانات الباقية النافعة، قال: {هذا بصائر لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وقد فسرناه في آخر سورة الأعراف، والمعنى هذا القرآن بصائر للناس جعل ما فيه من البيانات الشافية، والبينات الكافية بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعل في سائر الآيات روحاً وحياة، وهو هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن، ولم بيّن الله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه الذي تقدم، بيّن الفرق بينهما من وجه آخر، فقال: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} وفيه مباحث:
البحث الأول: {أَمْ} كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على شيء آخر، سواء كان ذلك المعطوف مذكوراً أو مضمراً، والتقدير هاهنا: أفيعلم المشركون هذا، أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين؟
البحث الثاني: الاجتراح: الاكتساب، ومنه الجوارح، وفلان جارحة أهله، أي كاسبهم، قال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60].
البحث الثالث: قال الكلبي: نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين: عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقاً لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنا أفضل حالاً منكم في الدنيا، فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبيّن أنه لا يمكن أن يكون حال لمؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب، ومنازل السعادات.
واعلم أن لفظ {حَسِبَ} يستدعي مفعولين أحدهما: الضمير المذكور في قوله: {أَن نَّجْعَلَهُمْ} والثاني: الكاف في قوله: {كالذين ءامَنُواْ} والمعنى أحسب هؤلاء المجترحين أن نجعلهم أمثال الذين آمنوا؟ ونظيره قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] وقوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سُوء الدار} [غافر: 51، 52] وقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36] وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ص: 28].
ثم قال تعالى: {سَوَاء مَّحْيَاهُمْ ومماتهم} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {سواء} بالنصب، والباقون بالرفع، واختيار أبي عبيد النصب، أما وجه القراءة بالرفع، فهو أن قوله: {مَّحْيَاهُمْ ومماتهم} مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب على البدل من المفعول الثاني لقوله: {أَمْ نَجْعَلُ} وهو الكاف في قوله: {كالذين ءامَنُواْ} ونظيره قوله: ظننت زيداً أبوه منطلق، وأما وجه القراءة بالنصب فقال صاحب الكشاف أجرى سواء مجرى مستوياً، فارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية وكان مفرداً غير جملة، ومن قرأ {ومماتهم} بالنصب جعل {مَّحْيَاهُمْ ومماتهم} ظرفين كمقدم الحاج، وخفوق النجم، أي سواء في محياهم وفي مماتهم، قال أبو علي من نصب سواء جعل المحيا والممات بدلاً من الضمير المنصوب في نجعلهم فيصير التقدير أن نجعله محياهم ومماتهم سواء، قال ويجوز أن نجعله حالاً ويكون المفعول الثاني هو الكاف في قوله: {كالذين}.
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله: {مَّحْيَاهُمْ ومماتهم} قال مجاهد عن ابن عباس يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم، كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وذلك لأن المؤمن ما دام يكون في الدينا فإنه يكون وليه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه، والكافر بالضد منه، كما ذكره في قوله: {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} وعند القرب إلى الموت، فإن حال المؤمن ما ذكره في قوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طَيّبِينَ يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ ادخلوا الجنة} [النمل: 32] وحال الكافر ما ذكره في قوله: {الذين تتوفاهم الملائكة ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} [النحل: 28] وأما في القيامة فقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 38 41] فهذا هو الإشارة إلى بيان وقوع التفاوت بين الحالتين والوجه الثاني: في تأويل الآية أن يكون المعنى إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن، وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات والوجه الثالث: في التأويل أن قوله: {سَوَاء مَّحْيَاهُمْ ومماتهم} مستأنف على معنى أن محيا المسيئين ومماتهم سواء فكذلك محيا المسحنين ومماتهم، أي كل يموت على حسب ما عاش عليه، ثم إنه تعالى صرح بإنكار تلك التسوية فقال: {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} وهو ظاهر.


{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)}
اعلم إنه تعالى لما أفتى بأن المؤمن لا يساوي الكافر في درجات السعادات، أتبعه بالدلالة الظاهرة على صحة هذه الفتوى، فقال: {وَخَلَقَ الله السموات والأرض بالحق} ولو لم يوجد البحث لما كان ذلك بالحق بل كان بالباطل، لأنه تعالى لما خلق الظالم وسلّطه على المظلوم الضعيف، ثم لا ينتقم للمظلوم من الظالم كان ظالماً، ولو كان ظالماً لبطل أنه خلق السموات والأرض بالحق وتمام تقرير هذه الدلائل مذكور في أول سورة يونس، قال القاضي هذه الآية تدل على أن في مقدور الله ما لو حصل لكان ظلماً، وذلك لا يصح إلا على مذهب المجبرة الذين يقولون لو فعل كل شيء أراده لم يكن ظلماً، وعلى قول من يقول إنه لا يوصف بالقدرة على الظلم، وأجاب الأصحاب عنه بأن المراد فعل ما لو فعله غيره لكان ظلماً كما أن المراد من الابتلاء والاختبار فعل ما لو فعله غيره لكان ابتلاءً واختباراً، وقوله تعالى: {ولتجزى} فيه وجهان:
الأول: أنه معطوف على قوله: {بالحق} فيكون التقدير وخلق الله السموات والأرض لأجل إظهار الحق ولتجزى كل نفس.
الثاني: أن يكون العطف على محذوف، والتقدير: وخلق الله السموات والأرض بالحق ليدل بهما على قدرته ولتجزى كل نفس والمعنى أن المقصود من خلق هذا العلم إظهار العدل والرحمة، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة وحصل التفاوت في الدرجات والدركات بين المحقين وبين المبطلين، ثم عاد تعالى إلى شرح أحوال الكفار وقبائح طوائفهم، فقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} يعني تركوا متابعة الهدى وأقبلوا على متابعة الهوى فكانوا يعبدون الهوى كما يعبد الرجل إلهه، وقرئ (آلهته هَوَاهُ) كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه وذهب خلفه، فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى يعبد كل وقت واحداً منها.
ثم قال تعالى: {وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} يعني على علم بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح، ونظيره في جانب التعظيم قوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وتحقيق الكلام فيه أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة فمنها مشرقة نورانية علوية إلهية، ومنها كدرة ظلمانية سفلية عظيمة الميل إلى الشهوات الجسمانية، فهو تعالى يقابل كلاً منهم بحسب ما يليق بجوهره وماهيته، وهو المراد من قوله: {وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} في حق المردودين وبقوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} في حق المقبولين.
ثم قال: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} فقوله: {وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} هو المذكور في قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} [البقرة: 6] إلى قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] وقوله: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} هو المراد من قوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة: 7] وكل ذلك قد مرّ تفسيره في سورة البقرة باللاستقصاء، والتفاوت بين الآيتين أنه في هذه الآية قدم ذكر السمع على القلب، وفي سورة البقرة قدم القلب على السمع، والفرق أن الإنسان قد يسمع كلاماً فيقع في قلبه منه أثر، مثل أن جماعة من الكفار كانوا يلقون إلى الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه، وأما كفار مكة فهم كانوا يبغضونه بقلوبهم بسبب الحسد الشديد فكانوا يستمعون إليه، ولو سمعوا كلامه ما فهموا منه شيئاً نافعاً، ففي الصورة الأولى كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس، وفي الصورة الثانية كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن، فلما اختلف القسمان لا جرم أرشد الله تعالى إلى كلا هذين القسمين بهذين الترتيبين اللذين نبهنا عليهما ولما ذكر الله تعالى هذا الكلام قال: {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله} أي من بعد أن أضله الله {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أيها الناس، قال الواحدي وليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة، لأن الله تعالى صرّح بمنعه إياهم عن الهدى حين أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره، وأقول هذه المناظرة قد سبقت بالاستقصاء في أول سورة البقرة.
واعلم أنه تعالى حكى عنهم بعد ذلك شبهتهم في إنكار القيامة وفي إنكار الإله القادر، أما شبهتهم في إنكار القيامة فهي قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا} فإن قالوا الحياة مقدمة على الموت في الدينا فمنكرو القيامة كان يجب أن يقولوا نحيا ونموت، فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة؟ قلنا فيه وجوه:
الأول: المراد بقوله: {نَمُوتُ} حال كونهم نطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، وبقوله: {نحيا} ما حصل بعد ذلك في الدينا الثاني: نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا الثالث: يموت بعض ويحيا بعض الرابع: وهو الذي خطر بالبال عند كتابة هذا الموضع أنه تعالى قدم ذكر الحياة فقال: {مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} ثم قال بعده: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا، ومنها ما لم يطرأ الموت عليها، وذلك في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد، وأما شبهتهم في إنكار الإله الفاعل المختار، فهو قولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر} يعني تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة، وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت، فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك، ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله وبين إنكار البعث والقيامة.
ثم قال تعالى: {وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} والمعنى أن قبل النظر ومعرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة، فالذي قالوه يحتمل وضده أيضاً يحتمل، وذلك هو أن يكون القول بالبعث والقيامة حقاً، وأن يكون القول بوجود الإله الحكيم حقاً، فإنهم لم يذكروا شبهة ضعيفة ولا قوية في أن هذا الاحتمال الثاني باطل، ولكنه خطر ببالهم ذلك الاحتمال الأول فجزموة به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة، فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الظن والحسبان وميل القلب إليه من غير موجب، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبيّنة قول باطل فاسد، وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند الله تعالى.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صادقين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرئ حجتهم بالنصب والرفع على تقديم خبر كان وتأخيره.
المسألة الثانية: سمى قولهم حجة لوجوه:
الأول: أنه في زعمهم حجة الثاني: أن يكون المراد من كان حجتهم هذا فليس لهم ألبتة حجة كقوله:
تحية بينهم ضرب وجيع ***
(أي ليس بينهم تحية لمنافاة الضرب للتحية) الثالث: أنهم ذكروها في معرض الاحتجاج بها.
المسألة الثالثة: أن حجتهم على إنكار البعث أن قالوا لو صح ذلك فائتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحة البعث.
واعلم أن هذه الشبهة ضعيفة جداً، لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال وجب أن يكون ممتنع الحصول، فإن حصول كل واحد منا كان معدوماً من الأزل إلى الوقت الذي حصلنا فيه، ولو كان عدم الحصول في وقت معين يدل على امتناع الحصول لكان عدم حصولنا كذلك، وذلك باطل بالاتفاق.
ثم قال تعالى: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} فإن قيل هذا الكلام مذكور لأجل جواب من يقول: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر} فهذا القائل كان منكراً لوجود الإله ولوجود يوم القيامة، فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} وهل هذا إلا إثبات للشيء بنفسه وهو باطل، قلنا إنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الفاعل الحكيم في القرآن مراراً وأطواراً. فقوله هاهنا {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ} إشارة إلى تلك الدلائل التي بيّنها وأوضحها مراراً، وليس المقصود من ذكر هذا الكلام إثبات الإله بقول الإله، بل المقصود منه التنبيه على ما هو الدليل الحق القاطع في نفس الأمر.
ولما ثبت أن الإحياء من الله تعالى، وثبت أن الإعادا مثل الإحياء الأول، وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله، ثبت أنه تعالى قادر على الإعادة، وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها، وثبت أن القادر الحكيم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقة.
وأما قوله تعالى: {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ} فهو إشارة إلى ما تقدم ذكره في الآية المتقدمة، وهو أن كونه تعالى، عادلاً خالقاً بالحق منزّهاً عن الجور والظلم، يقتضي صحة البعث والقيامة.
ثم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي لكن أكثر الناس لا يعلمون دلالة حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم، ولا يعلمون أيضاً أنه تعالى لما كان قادراً على الإيجاد ابتداءً وجب أن يكون قادراً على الإعادة ثانياً.


{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)}
واعلم أنه تعالى لما احتج بكونه قادراً على الإحياء في المرة الأولى، وعلى كونه قادراً على الإحياء في المرة الثانية في الآيات المتقدمة، عمم الدليل فقال: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} أي لله القدرة على جميع الممكنات سواء كانت من السموات أو من الأرض، وإذا ثبت كونه تعالى قادراً على كل الممكنات، وثبت أن حصول الحياة في هذه الذات ممكن، إذ لو لم يكن ممكناً لما حصل في المرة الأولى فيلزم من هاتين المقدمتين كونه تعالى قادراً على الإحياء في المرة الثانية.
ولما بيّن تعالى إمكان القول بالحشر والنشر بهذين الطريقين، ذكر تفاصيل أحوال القيامة فأولها: قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون} وفيه أبحاث:
البحث الأول: عامل النصب في يوم تقوم يخسر، ويومئذ بدل من يوم تقوم.
البحث الثاني: قد ذكرنا في مواضع من هذا الكتاب أن الحياة والعقل والصحة كأنها رأس المال، والتصرف فيها لطلب سعادة الآخرة يجري مجرى تصرف التاجر في رأس المال لطلب الربح، والكفار قد أتعبوا أنفسهم في هذه التصرفات وما وجدوا منها إلا الحرمان والخذلان فكان ذلك في الحقيقة نهاية الخسران.
وثانيها: قوله تعالى: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} قال الليث الجثو الجلوس على الركب كما يجثى بين يدي الحاكم، قال الزجاج ومثله جذا يجذو، قال صاحب الكشاف: وقرئ جاذية، قال أهل اللغة والجذو أشد استيفازاً من الجثو، لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه، وعن ابن عباس جاثية مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها.
ثم قال تعالى: {كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كتابها} على الابتداء وكل أمة على الإبدال من كل أمة، وقوله: {إلى كتابها} أي إلى صحائف أعمالها، فاكتفى باسم الجنس كقوله تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49] والظاهر أنه يدخل فيه المؤمنون والكافرون لقوله تعالى بعد ذلك {فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ}.
ثم قال تعالى: {وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ} فإن قيل الجثو على الركبة إنما يليق بالخائف والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة، قلنا إن المحق الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذه الحالة إلى أن يظهر كونه محقاً.
ثم قال تعالى: {اليوم تُجْزَوْنَ} والتقدير يقال لهم اليوم تجزون، فإن قيل كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله تعالى؟ قلنا لا منافاة بين الأمرين لأنه كتابهم بمعنى أنه الكتاب المشتمل على أعمالهم وكتاب الله بمعنى أنه هو الذي أمر الملائكة بكتبه {يَنطِقُ عَلَيْكُم} أي يشهد عليكم بما عملتم من غير زيادة ولا نقصان {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ} الملائكة {مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي نستكتبهم أعمالكم.
ثم بيّن أحوال المطيعين فقال: {فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكر بعد وصفهم بالإيمان كونهم عاملين للصالحات، فوجب أن يكون عمل الصالحات مغايراً للإيمان زائداً عليه.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة علق الدخول في رحمة الله على كونه آتياً بالإيمان والأعمال الصالحة، والمعلق على مجموع أمرين يكون عدماً عند عدم أحدهما، فعند عدم الأعمال الصالحة وجب أن لا يحصل الفوز بالجنة وجوابنا: أن تعليق الحكم على الوصف لا يدل على عدم الحكم عند عدم الوصف.
المسألة الثالثة: سمى الثواب رحمة والرحمة إنما تصح تسميتها بهذا الاسم إذا لم تكن واجبة، فوجب أن لا يكون الثواب واجباً على الله تعالى.
ثم قال تعالى: {وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ فاستكبرتم وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكر الله المؤمنين والكافرين ولم يذكر قسماً ثالثاً وهذا يدل على أن مذهب المعتزلة إثبات المنزلتين باطل.
المسألة الثانية: أنه تعالى علل أن استحقاق العقوبة بأن آياته تليت عليهم فاستكبروا عن قبولها، وهذا يدل على استحقاق العقوبة لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع، وذلك يدل على أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع، خلافاً لما يقوله المعتزلة من أن بعض الواجبات قد يجب بالعقل.
المسألة الثالثة: جواب {أَمَّا} محذوف والتقدير: وأما الذين كفروا فيقال لهم: أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم عن قبول الحق وكنتم قوماً مجرمين فإن قالوا كيف يحسن وصف الكافر بكونه مجرماً في معرض الطعن فيه والذم له؟ قلنا معناه أنهم مع كونهم كفاراً ما كانوا عدولاً في أديان أنفسهم، بل كانوا فساقاً في ذلك الدين، والله أعلم.

1 | 2 | 3